7/25/2010

قراءة في نتائج الانتخابات البلدية في القرى المسيحية الجنوبية


تشكّل بعض البلدات والقرى جيباً مسيحياً في أقصى الجنوب، وذلك في قضاء بنت جبيل، ويتشكّل هذا الجيب من القرى والبلدات التالية: علما، القوزح، دبل، رميش وعين ابل. تعيش اليوم، هذه البلدات، كما في باقي البلدات والقرى المسيحية في محافظتي الجنوب والنبطية واقعاً ديموغرافياً واجتماعياً مأزوماً.

ان قراءة هادئة لنتائج الانتخابات البلدية في هذه البلدات والقرى المسيحية، خاصة في قضاء بنت جبيل، يفرض الكلام على واقع إشكالي، يحرص الكثيرون على التغاضي عنه، وذلك من خلفية توافق ضمني، من كافة القوى السياسية الفعلية على أرض الجنوب. ربما لرغبة عند كافة الاطراف، تقول بترك هذه البلدات والقرى لقدرها ومصيرها، ضمن آلية القضم والتهميش.

لا أحد يستطيع ان يضع رأسه في الرمل، ويتعامى عن تبدّلات جذرية حدثت في هذه القرى والبلدات على امتداد فترة الاحتلال الاسرائيلي، وبالتالي على امتداد الفترة الزمنية التي أعقبت التحرير منذ العام 2000 حتى اليوم.

القاسم المشترك لهذه التبدّلات هو انطواء اكثرية الأجيال الشابة في هذه البلدات، القاطنة فيها او في بيروت او في بلاد الانتشار، في مناخات الأحزاب والمنظمات المسيحية الأصولية.

ولقد كان لهذا المناخ تأثيره الواضح على نتائج الانتخابات البلدية. وهذا ما ظهر في وضوح، خاصة في بلدة عين ابل مسقط رأس البطريرك خريش. فعين ابل، هي البلدة الأكثر رمزية، والتي تعكس الواقع السياسي فيها، التوجّه العام لهذه البلدات.

فلقد شهدت عين ابل معركة انتخابية قاسية وغنية بدلالاتها ونتائجها. لقد تنافس فيها ثلاث لوائح: الأولى مدعومة من القوات اللبنانية وبعض التنظيمات المسيحية المحلية، والثانية مستقلة انما تحظى برضى وعطف من الرئيس بري، والثالثة قريبة من حزب الله وأنصاره في البلدة وغير مكتملة.

لقد فازت اللائحة المدعومة من القوات اللبنانية برئاسة الاستاذ فاروق دياب، بفارق لا يتعدّى عشرات الأصوات، وتمّ خرق هذه اللائحة بعضوين من اللائحة المستقلة.

وهنا لا بد من تسجيل واقعة إكمال لوائح أنصار حزب الله، بأسماء من لائحة القوات اللبنانية. طبعاً انها من المفارقات النادرة في الانتخابات البلدية في لبنان، وتستحق التوقف عندها، تساؤلاً وتعجّباً...

ولكن المهمّ اليوم، محاولة مقاربة الأسباب الحقيقية لهذا المناخ السياسي والاجتماعي، المسيطر على الأجيال الشابة في هذه البلدات.

لا بدّ من الإشارة
اولاً الى ان هناك قسماً كبيراً من أهالي هذه البلدات، لا يزال مبعداً الى الأراضي المحتلة. وهذا ما يزكّي عند أهلهم، وبصورة دائمة، شعوراً بالنقمة على أهل السلطة ككل
 الأمر الثاني، هو ان مدارس بعض من هذه البلدات بعد التحرير، قد خسرت العديد من الطلاب الذين كانوا يفدون اليها من القرى والبلدات الشيعية المجاورة. وذلك لأسباب متعددة وتبدّل في المناخ السياسي والاجتماعي. فلم تعد هذه المدارس، كما كانت، وعلى امتداد عقود، مساحة لقاء وتعارف وصداقات مستقبلية.
 يضاف الى ذلك ضعف التواصل الاجتماعي في الأفراح والأحزان، بين هذه البلدات المتجاورة، وفقدانه حيوية زمن ما قبل التحرير.

ولكن يبقى السبب الأهم، والاكثر فاعلية في صنع هذا المناخ،
هو انتقال طلاب هذه البلدات في بداية المرحلة الجامعية، الى بيروت، وتحديداً الى الجامعات في المنطقة المسيحية. مع العلم ان مكانهم الطبيعي كان يجب ان يكون في فروع صيدا او النبطية ولكن ما يمنع هذا الأمر، صعوبة اندماج هؤلاء الشباب في المناخات السياسية والاجتماعية والدينية السائدة في حرم المراكز الجامعية في منطقة الجنوب.

تجدر الملاحظة ان هذا الامر لم يحدث مثلاً مع شبان وشابات القرى الشيعية في قضاء جبيل مثلاً. ان هؤلاء الطلاب يلتقون في حرم هذه الفروع الجامعية مع زملاء لهم من المسيحيين يشاركونهم توجهاتهم السياسية ويشكّلون معهم حلفاً سياسياً واحداً. وفي سياق الكلام على تعدّد الأسباب التي ساعدت على تكوّن هذا الواقع السياسي لدى الأجيال الشابّة في قرى أقصى الجنوب المسيحي
 لا بدّ من التوقف على تقصير التيار العوني وغيابه عن الساحة السياسية في هذه البلدات الى جانب تصدّي بعض المنتفعين من العمل السياسي، للترويج لأفكار التيار الوطني الحرّ في هذه البلدات. لذلك عجز التيار الوطني الحر عن إحداث اختراق كمّي ونوعي في صفوف الشباب المسيحي ربما على امتداد مساحة الجنوب ككل.

ان هذا الامر اخذ يشكّل في وجدان الجيل الطالع في هذه البلدات والقرى مشكلة اغتراب عن واقعهم الجغرافي. وقد ينعكس هذا الواقع في المدى القريب، ازمة هوية وانتماء، أخذت تتعمّق في كافة البنى الاجتماعية لهذه الجماعة القلقة على الوجود والهوية. وهذا الأمر يظهر بوضوح بسلبياته الديموغرافية على امتداد مساحة محافظتي الجنوب والنبطية. انها اشكالية الحق في الانتماء السياسي وتصاعد الغربة مع المحيط والبيئة.

في الختام لا بد امام هذه الظاهرة من دقّ ناقوس الخطر، وتجاوز انتخابات بلدية، قد لا تقدّم ولا تؤخّر مجالسه، في حتمية تضاؤل الوجود المسيحي في هذه البلدات، مستقبلاً كما هو حاصل في القرى والبلدات المختطلة كدردغيا، وقانا، ويارون، وصفد، وبرعشيت وتبنين وغيرها وغيرها.

الدكتور بطرس رزق
الديار في 19-7-2010

Aucun commentaire: